The Phoenix Daily

View Original

عروسة الثّورة

مقالة رأي، تالا مجذوب

12/05/2020

بعد أن كنت قد شاركت بالتظاهرات والإعتصامات الشعبيّة التي عمت بيروت ومختلف المناطق اللبنانية تنديداً بالظروف المعيشية الصعبة والبطالة والفساد، أردت المشاركة في تظاهرات طرابلس، في أواخر شهر تشرين الأول من عام 2019، حيث من الجدير ذكره، أنه سرعان ما اتخذت التظاهرات والإعتصامات في ساحة عبد الحميد كرامي طابعاً احتفالياً مما أكسب طرابلس لقب "عروسة الثورة" وبالتالي ازداد شوقي أكثر من المعتاد لزيارة بيت جدتّي وجدّي في طرابلس.

الفيحاء هي عينها طرابلس، مدينة العلم والعلماء، التي دفعت ثمناً باهظاً جراء النظام السياسي القائم في البلد، وحملت وصمة الإرهاب على جبينها. هي ذاتها التي أصبحت المسرح الكبيرالذي يصدح بالأغاني وحلقات الرقص والأناشيد الثورية الحماسية. ليكسر آلاف الشبان والشابات الصورة النمطية لمدينة محافظة ارتبط اسمها بالحروب والتعصّب.

 في أواخر أيام شهر تشرين عام 2019، مزقنا أنا والمتظاهرون في طرابلس صوراً للزعماء التي تنتشر في الأحياء الفقيرة وعلى المحال والأعمدة الكهربائية، من دون أن نستثني أحداً. من بعد ذلك، صدحت أناشيد الثورة وهتفت الحشود بصوت عالٍ، بينما كان مهدي كريمة (منسق موسيقى بالمدينة) يتسلّق في ساحة النّور مع عدد من أصدقائه وأجهزته الموسيقية العالية سطح بناء مطل بألوان العلم الوطني والأرزة اللبنانية تتوسطه. ما أحلاك يا طرابلس، يا "عروسة الثّورة".

مرّت الأيّام، تدهور الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان من سيّء الى أسوء. لم يشهد لبنان منذ الحرب الأهلية أسوأ مما يعيش حاليا، خاصةً مع تدابير العزل التي فرضت من قبل السلطات الصحية وذلك لمحاولة احتواء تفشي فيروس كورونا بعد تحوله الى جائحة. وخسرت الليرة اللبنانية أكثر من نصف قيمتها، وسط ارتفاع كبير في الأسعار وتفشي البطالة بشكل غير مسبوق. وعلى الرغم من أن التدهور يطال كافة مناطق لبنان، إلا أن طرابلس كانت من المناطق الأكثر تضررا، إذ يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر مع اختفاء الطبقة الوسطى و إنكشاف غالبية العائلات الطرابلسية الى العوز أو للعيش بفقر.

في وقت سابق من هذا الأسبوع، حزمت أغراضي لزيارة  تيتا وجدّو في طرابلس، ولأتناول الإفطار الرمضاني مع عائلتي هناكولأتحلّى بالحلو الطرابلسي الغير شكل. بعد الافطار، وصلني تنبيه الكتروني على هاتفي الخليوي عن "عودة التحرّكات المدنيّة الى ساحة عبد الحميد كرامي". لم أتفاجأ، اذ علمت طيلة فترة الحجر بأن ثورتتا لم تنته والتحركات الميدانية عائدة مهما طالت المدّة الزمنية للحجر. سرعان ما ودعت العائلة واتجهت الى السّاحة. الّا أنّ السّاحة لم تعد "ساحة النّور" كما عهدتها، بل تحوّلت الى أرض معركة، حيث اندلعت المواجهات العنيفة بين الجيش والمحتجين. لم تأخذ والدي أكثر من بضع دقائق ليتصل بي طالبًا إلي العودة الى المنزل، اذ بدأ  الكرّ والفرّ والفوضى باحتلال شوارع طرابلس. 

نتج عن الليالي الحامية في طرابلس تحطيم وإحراق مصارف و آلات السحب ِالآلي، عدا عن تضرر في الأملاك العامّة و الخاصة. إضافة الى سقوط أكثر من 27 جريحاً من العامة و العديد من الجرحى من الجيش و القوى الأمنية، عدا عن استشهاد الشاب  فوّاز السمان الذي كان من الذين يشاركون بشكل شبه يومي بالاحتجاجات التي نُظّمت في المدينة منذ بداياتها. مما دعا الى التساؤل، هل هذه هي الخطوات التي وعد الثوار بتنفيذها و القيام بها ما بعد الجائحة؟ هل ستتجه ثورتنا نحو منحا آخر و تتخذ الطابع الدموي؟  وهلأ  لوين؟

Adra Kandil (IG: @Dear.Nostalgia).

مما لا شك فيه أن الكل متعب وضائع مما يحدث ومتخبط بالتفسير والتأويل والتحليل، و حين أقول "الكل" فأعني كل الداخل اللبناني بمختلف أطيافه. أكّد العميد المتقاعد جورج نادر (من قياديي الثوار) لـ "المركزية" أنّ "نفسية الجماهيرعامل مساهم لانسياق المحتجين إلى الأعمال العنفية ووضعهم في مواجهة مباشرة مع الجيش و القوى الأمنية فبالتالي يمكن لمندسين معدودين جدّاً أن يزرعوا بين الثوار الفعليين و القيام بالتحريض على التخريب مع أني أعارض بشدة أي عمل عنفي".

 كما أوضح نادر أن "الثورة غير مسؤولة عن المنحى العنفي، بل جاء نتيجة دخول أحزاب السلطة وتحديداً المصنفين بـ "14 آذار" على خط تشويه الثورة وحرف مسارها، مستغلين فقر الناس عبر دفع المال لهم لتحقيق غاياتهم واستعادة حقبة 14 ضد 8، في حين أن الثورة لا تريد محاربة الأميركي ولا إيران عبر استهداف "حزب الله"، بل تسعى لإسقاط المنظومة الفاسدة بكاملها كي نتمكن من إعادة إنشاء و بناء وطن".

ومساء يوم الخميس في الثلاثين من الشهر الجاري، يصلنا تنبيه عاجل على هواتفنا الخليويّة، تطمىئن إلى إتمام "مصالحة بين الجيش والثوار بالآلاف في الميناء وتوزيع الحلوى وهتافات الشعب والجيش ايد وحدة". تمثّل طرابلس مثالا صغيرًا لما سيحصل في كافة أنحاء لبنان. كيف لا ولم لا نحتفل في طرابلس كما كنّا؟ ونعم، ستؤدّي هذه التطورات باتخاذ الثورة منحى جديداً، ولكن كيف؟

لا يمكننا السيطرة على "ثورة الجياع"، ولا يمكننا العتب على من يعجز عن تأمين لقمة عيشه وعيش أولاده. ولكن من الجدير ذكره، من مال من تلك الأملاك العامّة التي تحطّمت سيتم إصلاحها؟ أوليس من مالي ومالك ومال الشعب الثاىْر بأكمله؟ أما الزعيم والسياسي، فهل سيرف له جفن؟ هنا أقول، ربما اذا استهدافنا منازلهم، منازل أصحاب السلطة الفاسدة، وضغطنا عليهم بعزيمة، سنحقق مطالبنا، ولو بعد حين.

بالخلاصة، الكل متألم متأزم،  "ثورة الجياع" لا تدقّ أبوابنا، بل تخلعها. لا شك بأننا نحصد من ما زرع في خلال ثلاثين سنة و نجني ثمار ثقافة تأصلت على مدى عقود بمختلف مفاصل الدولة ألا واسمها الرشوة و الفساد. وها نحن اليوم نحصد ممن صفقت لهم أيادينا وما لهم من فضل إلا بالقيام بترسيخ الطائفية بالعقول و الممارسة و لو بشكل منمق أم مقنع. حري بثورة 17 تشرين بالقيام بالتنقيح و تجديد النفس الثوري الحق وإلا، فالمسميات كثيرة للتشويش، وسنرى راكبي الموجة بازدياد وزناة إقتناص الفرص بالمرصاد حينها. ما خوفي إلا أن ترتدي الثورة الثوب الذي يليق بالكل والكل راض صاغر إلا أنه هناك استحالة بمكان أن يليق بعروس و العوض حينها على ما كان يا ما كان من قديم الزمان، "عروس الثورة".